فصل: تفسير الآية رقم (36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

هذا شرح حال أضداد الذين يوفون بعهد الله، وهو ينظر إلى شرح مجمل قوله‏:‏ ‏{‏كمن هو أعمى‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 19‏]‏‏.‏ والجملة معطوفة على جملة ‏{‏الذين يوفون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 20‏]‏‏.‏

ونقض العهد‏:‏ إبطاله وعدم الوفاء به‏.‏

وزيادة من بعد ميثاقه‏}‏ زيادة في تشنيع النقض، أي من بعد توثيق العهد وتأكيده‏.‏

وتقدم نظير هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يضلّ به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض‏}‏ في أوائل سورة البقرة‏:‏ 26 27‏)‏‏.‏

وجملة أولئك لهم اللعنة‏}‏ خبر عن ‏{‏والذين ينقضون‏}‏ وهي مقابل جملة ‏{‏أولئك لهم عقبى الدار‏}‏‏.‏

والبعد عن الرحمة والخزيُ وإضافة سوء الدار كإضافة عقبى الدار‏.‏ والسوء ضد العقبى كما تقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عما يهجس في نفوس السامعين من المؤمنين والكافرين من سماع قوله‏:‏ ‏{‏أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار‏}‏ المفيد أنهم مغضوب عليهم، فأما المؤمنون فيقولون‏:‏ كيف بَسط الله الرزق لهم في الدنيا فازدادوا به طغياناً وكفراً وهلا عذبهم في الدنيا بالخصاصة كما قدر تعذيبهم في الآخرة، وذلك مثل قول موسى عليه السلام ‏{‏ربّنَا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 88‏]‏، وأما الكافرون فيسخرون من الوعيد مزدهين بما لهم من نعمة‏.‏ فأجيب الفريقان بأن الله يشاء بسط الرزق لبعض عباده ونقصه لبعض آخر لحكمةٍ متصلة بأسباب العيش في الدنيا، ولذلك اتّصال بحال الكرامة عنده في الآخرة‏.‏ ولذلك جاء التعميم في قوله‏:‏ لمن يشاء‏}‏، ومشيئته تعالى وأسبابها لا يطلع عليها أحد‏.‏

وأفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏الله يبسط‏}‏ تقويةً للحكم وتأكيداً، لأن المقصود أن يعلمه الناس ولفت العقول إليه على رأي السكاكي في أمثاله‏.‏ وليس المقام مقام إفادة الحصر كما درج عليه «الكشاف» إذ ليس ثمة من يزعم الشركة لله في ذلك، أو من يزعم أن الله لا يفعل ذلك فيقصد الرد عليه بطريق القصر‏.‏

والبسط‏:‏ مستعار للكثرة وللدوام‏.‏ والقَدْر‏:‏ كناية عن القلة‏.‏

ولما كان المقصود الأول من هذا الكلام تعليم المسلمين كان الكلام موجهاً إليهم‏.‏

وجيء في جانب الكافرين بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم أقل من أن يفهموا هذه الدقائق لعنجهية نفوسهم فهم فرحُوا بما لهم في الحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة، فالفرح المذكور فرحُ بَطَر وطغيان كما في قوله تعالى في شأن قارون‏:‏ ‏{‏إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين‏}‏ ‏[‏سورة القصص‏:‏ 76‏]‏، فالمعنى فرحوا بالحياة الدنيا دون اهتمام بالآخرة‏.‏ وهذا المعنى أفادهُ الاقتصار على ذكر الدنيا في حين ذكر الآخرة أيضاً بقوله‏:‏ وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع‏}‏‏.‏

والمراد بالحياة الدنيا وبالآخرة نعيمهما بقرينة السياق، فالكلام من إضافة الحكم إلى الذات والمراد أحوالها‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ ظرف مستقر حال من ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ ومعنى ‏{‏في‏}‏ الظرفية المجازية بمعنى المقايسة، أي إذا نُسبت أحوال الحياة الدنيا بأحوال الآخرة ظهر أن أحوال الدنيا متاعٌ قليل، وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل‏}‏ في سورة براءة ‏(‏38‏)‏‏.‏

والمتاع‏:‏ ما يتمتع به وينقضي‏.‏ وتنكيره للتقليل كقوله‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 196 197‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

عطف غرض على غرض وقصةٍ على قصة‏.‏ والمناسبة ذكر فرحهم بحياتهم الدنيا وقد اغتروا بما هم عليه من الرزق فسألوا تعجيل الضرّ في قولهم‏:‏ ‏{‏اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏سورة الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وهذه الجملة تكرير لنظيرتها السابقة ‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فأعيدت تلك الجملة إعادةَ الخطيب كلمةً من خطبته ليأتي بما بقي عليه في ذلك الغرض بعد أن يفصل بما اقتضى المقام الفصل به ثم يتفرغ إلى ما تركه من قبل، فإنه بعد أن بَينتْ الآيات السابقة أنّ الله قادر على أن يعجل لهم العذاب ولكن حكمته اقتضت عدم التنازل ليتحدى عبيده فتبين ذلك كله كمال التبيين‏.‏ وكل ذلك لاحق بقوله‏:‏ وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً إنا لفي خلق جديد ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 5‏]‏، وعود إلى المهم من غرض التنويه بآية القرآن ودلالته على صدق الرسول، ولهذا أطيل الكلام على هدي القرآن عقب هذه الجملة‏.‏

ولذلك تعين أن موقع جملة إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏ موقع الخبر المستعمل في تعجيب الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة ضلالهم بحيث يوقن من شاهد حالهم أن الضلال والاهتداء بيد الله وأنهم لولا أنهم جبلوا من خلقة عقولهم على اتباع الضلال لكانوا مُهتدين لأن أسباب الهداية واضحة‏.‏

وتحت هذا التعجيب معان أخرى‏:‏

أحدها‏:‏ أن آيات صدق النبي صلى الله عليه وسلم واضحة لولا أن عقولهم لم تدركها لفساد إدراكهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن الآيات الواضحة الحسية قد جاءت لأمم أخرى فرأوها ولم يؤمنوا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

الثالث‏:‏‏}‏ أن لعدم إيمانهم أسباباً خفية يعلمها الله قد أبهمت بالتعليق على المشيئة في قوله‏:‏ ‏{‏يضل من يشاء‏}‏ منها ما يُومئ إليه قوله في مقابلة ‏{‏ويهدي إليه من أناب‏}‏‏.‏ وذلك أنهم تكبروا وأعرضوا حين سمعوا الدعوة إلى التوحيد فلم يتأملوا، وقد ألقيت إليهم الأدلة القاطعة فأعرضوا عنها ولو أنابوا وأذعنوا لهداهم الله ولكنهم نفروا‏.‏ وبهذا يظهر موقع ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجيب به عن قولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ بأن يقول‏:‏ ‏{‏إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏، وأن ذلك تعريض بأنهم ممن شاء الله أن يكونوا ضالين وبأن حالهم مثار تعجب‏.‏

والإنابة‏:‏ حقيقتها الرجوع‏.‏ وأطلقت هنا على الاعتراف بالحق عند ظهور دلائله لأن النفس تنفر من الحق ابتداء ثم ترجع إليه، فالإنابة هنا ضد النفور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

استئناف اعتراضي مناسبتهُ المُضادةُ لحال الذين أضلهم الله، والبيانُ لحال الذين هداهم مع التنبيه على أن مثال الذين ضلوا هو عدم اطمئنان قلوبهم لذكر الله، وهو القرآن، لأن قولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ يتضمن أنهم لم يعدوا القرآن آية من الله، ثم التصريح بجنس عاقبة هؤلاء، والتعريض بضد ذلك لأولئك، فذكرها عقب الجملة السابقة يفيد الغرضين ويشير إلى السببين‏.‏ ولذلك لم يجعل ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ بدلاً من ‏{‏من أناب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 27‏]‏ لأنه لو كان كذلك لم تعطف على الصلة جملة وتطمئن قلوبهم‏}‏ ولا عطف ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ على الصلة الثانية‏.‏ ف ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ الأول مبتدأ، وجملة ‏{‏ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب‏}‏ معترضة و‏{‏الذين آمنوا‏}‏ الثاني بدل مطابق من ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ الأول، وجملة ‏{‏طوبى لهم‏}‏ خبر المبدأ‏.‏

والاطمئنان‏:‏ السكون، واستعير هنا لليقين وعدم الشك، لأن الشك يستعار له الاضطراب‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏260‏)‏‏.‏

و ‏(‏ذكر الله‏)‏ يجوز أن يراد به خشية الله ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه‏.‏ ويجوز أن يراد به القرآن قال‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 44‏]‏، وهو المناسب قولهم‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏‏.‏ وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى في سورة الزمر‏:‏ ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 22‏]‏، أي للذين كان قد زادهم قسوة قلوب، وقوله في آخرها‏:‏ ‏{‏ثم تلين جُلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والذكر من أسماء القرآن، ويجوز أن يراد ذكر الله باللسان فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته‏.‏

وهذا وصف لحسن حال المؤمنين ومقايستهِ بسوء حالة الكافرين الذين غمر الشك قلوبهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل قلوبهم في غمرة من هذا‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 63‏]‏‏.‏

واختير المضارع في تطمئن‏}‏ مرتين لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره وأنه لا يتخلله شك ولا تردد‏.‏

وافتتحت جملة ‏{‏إلا بذكر الله‏}‏ بحرف التنبيه اهتماماً بمضمونها وإغراء بوعيه‏.‏ وهي بمنزلة التذييل لما في تعريف ‏{‏القلوب‏}‏ من التعميم‏.‏ وفيه إثارة الباقين على الكفر على أن يتسموا بسمة المؤمنين من التدبير في القرآن لتطمئن قلوبهم، كأنه يقول‏:‏ إذا علمتم راحة بال المؤمنين فماذا يمنعكم بأن تكونوا مثلهم فإن تلك في متناولكم لأن ذكر الله بمسامعكم‏.‏

وطوبى‏:‏ مصدر من طاب طيباً إذا حسن، وهي بوزن البُشرى والزلفى، قلبت ياؤها واواً لمناسبة الضمة، أي لهم الخير الكامل لأنهم اطمأنت قلوبهم بالذكر، فهم في طيب حال‏:‏ في الدنيا بالاطمئنان، وفي الآخرة بالنعيم الدائم وهو حسن المئاب وهو مرجعهم في آخر أمرهم‏.‏

وإطلاق المآب عليه باعتبار أنه آخرُ أمرهم وقرارهم كما أن قرار المرء بيته يرجع إليه بعد الانتشار منه‏.‏ على أنه يناسب ما تقرر أن الأرواح من أمر الله، أي من عالم الملكوت وهو عالم الخلد فمصيرها إلى الخلد رجوع إلى عالمها الأول‏.‏ وهذا مقابل قوله في المشركين ‏{‏ولهم سوء الدار‏.‏

واللام في قوله‏:‏ لهم‏}‏ للملك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

هذا الجواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ لأن الجواب السابق بقوله‏:‏ ‏{‏قل إن الله يضل من يشاء‏}‏ جواب بالإعراض عن جهالتهم والتعجب من ضلالهم وما هنا هو الجواب الرادُّ لقولهم‏.‏ فيجوز جعل هذه الجملة من مقول القول، ويجوز جعله مقطوعة عن جملة ‏{‏قل إن الله يضل من يشاء‏}‏‏.‏ وأيّا ما كان فهي بمنزلة البيان لجملة القول كلها، أو البيان لجملة المقول وهو التعجب‏.‏

وفي افتتاحها بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ الذي هو اسم إشارة تأكيد للمشار إليه وهو التعجب من ضلالتهم إذ عموا عن صفة الرسالة‏.‏

والمشارُ إليه‏:‏ الإرسال المأخوذ من فعل ‏{‏أرسلناك‏}‏، أي مثل الإرسال البين أرسلناكَ، فالمشبه به عين المشبّه، إشارة إلى أنه لوضوحه لا يبين ما وضح من نفسه‏.‏ وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

ولما كان الإرسال قد علق بقوله‏:‏ في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك‏}‏ صارت الإشارة أيضاً متحملة لمعنى إرسال الرسل من قبله إلى أمم يقتضي مرسَلين، أي ما كانت رسالتك إلاّ مثل رسالة الرسل من قبلك‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بدعا من الرسل‏}‏ ‏[‏سورة الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 20‏]‏ لإبطال توهم المشركين أن النبي لما لم يأتهم بما سألوه فهو غير مرسل من الله‏.‏ وفي هذا الاستدلال تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 31‏]‏ الآيات‏.‏ ولذلك أردفت الجملة بقوله‏:‏ لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك‏}‏‏.‏

والأمّة‏:‏ هي أمة الدعوة ‏{‏فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏}‏‏.‏

وتقدم معنى ‏{‏قد خلت من قبلها أمم‏}‏ في سورة آل عمران عند قوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سُنن‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 137‏]‏‏.‏ ويتضمن قوله‏:‏ قد خلت من قبلها أمم‏}‏ التعريض بالوعيد بمثل مصير الأمم الخالية التي كذبت رسلها‏.‏

وتضمن لام التعليل في قوله‏:‏ ‏{‏لتتلوا عليهم‏}‏ أن الإرسال لأجل الإرشاد والهداية بما أمر الله لا لأجل الانتصاب لخوارق العادات‏.‏

والتلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ فالمقصود لتقرأ عليهم القرآن، كقوله‏:‏ ‏{‏وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ ‏[‏سورة النمل‏:‏ 92‏]‏ الآية‏.‏

وفيه إيماء إلى أن القرآن هو معجزته لأنه ذكره في مقابلة إرسال الرسل الأولين ومقابلة قوله‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله‏:‏ ‏{‏أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقال النبي‏:‏ ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاه الله إلي‏.‏

وجملة وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ عطف على جملة ‏{‏كذلك أرسلناك‏}‏، أي أرسلناك بأوضح الهداية وهم مستمرون على الكفر لم تدخل الهداية قلوبهم، فالضمير عائد إلى المشركين المفهومين من المقام لا إلى ‏{‏أمة‏}‏ لأن الأمة منها مؤمنون‏.‏

والتعبير بالمضارع في ‏{‏يكفرون‏}‏ للدلالة على تجدد ذلك واستمراره‏.‏ ومعنى كفرهم بالله إشراكهم معه غيره في الإلهية، فقد أبطلوا حقيقة الإلهية فكفروا به‏.‏

واختيار اسم ‏(‏الرحمن‏)‏ من بين أسمائه تعالى لأن كفرهم بهذا الاسم أشد لأنهم أنكروا أن يكون اللّهُ رحمان‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمان‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏60‏)‏، فأشارت الآية إلى كفرين من كفرهم‏:‏ جحدِ الوحدانية، وجحدِ اسم الرحمان؛ ولأن لهذه الصفة مزيد اختصاص بتكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتأييده بالقرآن لأن القرآن هُدًى ورحمة للناس‏.‏ وقد أرادوا تعويضه بالخوارق التي لا تكسب هدْياً بذاتها ولكنها دالة على صدق من جاء بها‏.‏

قال مقاتل وابن جريج‏:‏ نزلت هذه الآية في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح فقال النبي للكاتب اكتب بِسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عَمرو‏:‏ ما نعرف الرحمان إلا صاحب اليمامة، يعني مسيلمة، فقال النبي اكتب باسمك اللّهم‏.‏ ويبعده أن السورة مكية كما تقدم‏.‏

وعن ابن عباس نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن فنزلت‏.‏

وقد لقن النبي بإبطال كفرهم المحكي إبطالاً جامعاً بأن يقول‏:‏ هو ربي‏}‏، فضمير ‏{‏هو‏}‏ عائد إلى ‏(‏الرحمان‏)‏ باعتبار المسمى بهذا الاسم، أي المسمى هو ربي وأن الرحمان اسمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ إبطال لإشراكهم معه في الإلهية غيره‏.‏ وهذا مما أمر الله نبيه أن يقوله، فهو احتراس لرد قولهم‏:‏ إن محمداً صلى الله عليه وسلم يدعو إلى رب واحد وهو يقول‏:‏ إن ربه الله وإن ربه الرحمان، فكان قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ دالاً على أن المدعو بالرحمان هو المدعو بالله إذ لا إله إلا إله واحد، فليس قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ إخباراً من جانب الله على طريقة الاعتراض‏.‏

وجملة ‏{‏عليه توكلت وإليه متاب‏}‏ هي نتيجة لكونه رباً واحداً‏.‏ ولكنها كالنتيجة لذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من الاتصال‏.‏

وتقديم المجرورين وهما ‏{‏عليه‏}‏ و‏{‏إليه‏}‏ لإفادة اختصاص التوكل والمتاب بالكون عليه، أي لا على غيره، لأنه لما توحد بالربوبية كان التوكل عليه، ولما اتّصف بالرحمانية كان المتاب إليه، لأن رحمانيته مظنة لقبوله توبة عبده‏.‏

والمتاب‏:‏ مصدر ميمي على وزن مفعل، أي التوبة، يفيد المبالغة لأن الأصل في المصادر الميمية أنها أسماء زمان جعلت كناية عن المصدر، ثم شاع استعمالها حتى صارت كالصريح‏.‏

ولما كان المتاب متضمناً معنى الرجوع إلى ما يأمر الله به عدّي المتاب بحرف ‏{‏إلى‏.‏

وأصلُ مَتَاب‏}‏ متابي بإضافة إلى ياء المتكلم فحذفت الياء تخفيفاً وأبقيت الكسرة دليلاً على المحذوف كما حذف في النادى المضاف إلى الياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الارض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى بَل للَّهِ الامر جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْھَسِ الذين ءامنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعًا‏}‏‏.‏

يجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏كذلك أرسلناك في أمة‏}‏ لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل عليهم السّلام كما أشار إليه صفة ‏{‏أمة قد خلت من قبلها أمم‏}‏، فتكون جملة ‏{‏ولو أن قرآناً‏}‏ تتمة للجواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون معترضة بين جملة ‏{‏قل هو ربي‏}‏ وبين جملة ‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 33‏]‏ كما سيأتي هنالك‏.‏ ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفاً على جملة هو ربي لا إله إلا هو‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ لو أن كتاباً من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآنٌ كذلك، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سُنن الكتب الإلهية‏.‏

وجواب ‏{‏لو‏}‏ محذوف لدلالة المقام عليه‏.‏ وحذفُ جواب ‏{‏لو‏}‏ كثير في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 27‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم‏}‏ ‏[‏سورة السجدة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

ويفيد ذلك معنى تعريضياً بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب، فيكون على حدّ قول أبَيّ بن سُلْمَى من الحماسة‏:‏

ولو طَارَ ذو حافر قَبلها *** لطارتْ ولكنه لم يَطِر

ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس‏:‏ أن كفار قريش، أبا جهل وابن أبي أميّة وغيرهما جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي فقالوا‏:‏ لو وسّعْت لنا جبال مكّة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحتَرثهما فإنها ضيقة، أو قرّب إلينا الشام فإنا نتجر إليها، أو أخرج قصَياً نكلمه‏.‏

وقد يؤيد هذه الرواية أنه تَكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام ‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 111‏]‏، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارةٌ إلى تهكمهم‏.‏ وعلى هذا يكون قطعت به الأرض‏}‏ قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏

وجملة بل لله الأمر جميعاً‏}‏ عطف على ‏{‏ولو أن قرآناً‏}‏ بحرف الإضراب، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه‏.‏

ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري‏:‏ لأحملنّك على الأدهم ‏(‏يريد القيد‏)‏‏.‏ فأجابه القبعثري بأن قال‏:‏ مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، فصرفه إلى لون فرس‏.‏

والأمر هنا‏:‏ التصرف التكويني، أي ليس القرآن ولا غيره بمكوّن شيئاً مما سألتم بل الله الذي يكوّن الأشياء‏.‏

وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف ب ‏{‏بل‏}‏ من طرق القصر، فاللام في قوله‏:‏ ‏{‏الأمر‏}‏ للاستغراق، و‏{‏جميعاً‏}‏ تأكيد له‏.‏ وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد ب ‏{‏بل‏}‏ العاطفة‏.‏

وفرع على الجملتين ‏{‏أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً‏}‏ استفهاماً إنكارياً إنكاراً لانتفاء يَأسي الذين آمنوا، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً‏.‏

وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة ‏{‏قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وييأس‏}‏ بمعنى يوقن ويعلم، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع ‏{‏أن‏}‏ المصدرية، وأصله مشتق من اليَأس الّذي هو تيقّن عدم حصول المطلوب بعد البحث، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة، ومنه قول سُحَيم بن وَثيل الرياحي‏:‏

أقول لهم بالشّعْب إذ يَيْسَرُونَنِي *** ألم تأيسوا أني ابنُ فارس زهدم

وشواهد أخرى‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن استعمال يَئِس بمعنى عَلِم لغة هَوازن أو لغة بنِي وَهْبيل ‏(‏فخذ من النخَع سمي باسم جَد‏)‏‏.‏ وليس هنالك ما يلجئ إلى هذا‏.‏ هذا إذا جعل ‏{‏أن لو يشاء الله‏}‏ مفعولاً ل ‏{‏ييأس‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون متعلق ‏{‏ييأسْ‏}‏ محذوفاً دل عليه المقام‏.‏ تقديره‏:‏ مِن إيمان هَؤلاء، ويكونَ ‏{‏أن لو يشاء الله‏}‏ مجروراً بلام تعليل محذوفة‏.‏ والتقدير‏:‏ لأنه لو يشاء الله لهدى الناس، فيكون تعليلاً لإنكار عَدَم يأسهم على تقدير حصوله‏.‏

‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد‏}‏‏.‏

معطوفة على جملة ‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال‏}‏ على بعض الوجوه في تلك الجملة‏.‏ وهي تهديد بالوعيد على تعنتهم وإصرارهم على عدم الاعتراف بمعجزة القرآن، وتهكمهم باستعجال العذاب الذي توعدوا به، فهددوا بما سيحلّ بهم من الخوف بحلول الكتائب والسرايا بهم تنال الذين حلّت فيهم وتخيف من حولهم حتى يأتي وعد الله بيوم بدر أو فتح مكّة‏.‏

واستعمال ‏{‏لا يزال‏}‏ في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض، فتكون هذه الآية تنبيهاً لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد لله‏.‏

ولعلها نزلت في مدة إصابتهم بالسنين السبع المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 155‏]‏‏.‏

ومن جعلوا هذه السورة مدنية فتأويل الآية عندهم أن القارعة السرية من سرايا المسلمين التي تخرج لتهديد قريش ومن حولهم‏.‏ وهو لا ملجئ إليه‏.‏

والقارعة‏:‏ في الأصل وصف من القرع، وهو ضرب جسم بجسم آخر‏.‏ يقال‏:‏ قرع الباب إذا ضربه بيده بحلقة‏.‏ ولما كان القرع يحدث صوتاً مباغتاً يكون مزعجاً لأجل تلك البغتة صار القرع مجازاً للمباغتة والمفاجأة، ومثله الطّرْق‏.‏ وصاغوا من هذا الوصف صيغة تأنيث إشارة إلى موصوف مُلتزم الحذف اختصاراً لكثرة الاستعمال، وهو ما يؤوّل بالحادثة أو الكائنة أو النازلة، كما قالوا‏:‏ داهية وكارثة، أي نازلة موصوفة بالإزعاج فإن بغت المصائب أشد وقعاً على النفس‏.‏ ومنه تسمية ساعة البعث بالقارعة‏.‏

والمراد هنا الحادثة المفجعة بقرينة إسناد الإصابة إليها‏.‏ وهي مِثل الغارة والكارثة تحلّ فيهم فيصيبهم عذابها، أو تقع بالقرب منهم فيصيبهم الخوف من تجاوزها إليهم، فليس المراد بالقارعة الغزو والقتال لأنه لم يتعارف إطلاق اسم القارعة على موقعة القتال، ولذلك لم يكن في الآية ما يدل على أنها مما نزل بالمدينة‏.‏

ومعنى بما صنعوا‏}‏ بسبب فعلهم وهو كفرهم وسوء معاملتهم نبيئَهم‏.‏ وأتي في ذلك بالموصول لأنه أشمل لأعمالهم‏.‏

وضمير ‏{‏تحل‏}‏ عائد إلى ‏{‏قارعة‏}‏ فيكون ترديداً لحالهم بين إصابة القوارع إياهم وبين حلول القوارع قريباً من أرضهم فهم في رعب منها وفزع ويجوز أن يكون ‏{‏تحل‏}‏ خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أو تحل أنتَ مع الجيش قريباً من دارهم‏.‏ والحلول‏:‏ النزول‏.‏

وتحُلّ‏:‏ بضم الحاء مضارع حَلّ اللازم‏.‏ وقد التزم فيه الضم‏.‏ وهذا الفعل مما استدركه بحرق اليمني على ابن مالك في شرح لامية الأفعال، وهو وجيه‏.‏

و ‏{‏وعد الله‏}‏ من إطلاق المصدر على المفعول، أي موعود الله، وهو ما توعدهم به من العذاب، كما في قوله‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 12‏]‏، فأشارت الآية إلى استئصالهم لأنها ذكرت الغلب ودخول جهنم، فكان المعنى أنه غلبُ القتل بسيوف المسلمين وهو البطشة الكبرى‏.‏ ومن ذلك يوم بدر ويوم حنين ويوم الفتح‏.‏

وإتيان الوعد‏:‏ مجاز في وقوعه وحلوله‏.‏

وجملة إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏حتى يأتي وعد الله‏}‏ إيذاناً بأن إتيان الوعد المغيا به محقق وأن الغاية به غاية بأمر قريب الوقوع‏.‏ والتأكيد مراعاة لإنكار المشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 31‏]‏ الخ، لأن تلك المُثُل الثلاثة التي فرضت أريد بها أمور سألها المشركون النبي استهزاءً وتعجيزاً لا لترقب حصولها‏.‏

وجاءت عقب الجملتين لما فيها من المناسبة لهما من جهة المُثل التي في الأولى ومن جهة الغاية التي في الثانية‏.‏

وقد استهزأ قوم نوح به عليه السلام ‏{‏وكُلّما مَرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 38‏]‏، واستهزأت عاد بهود عليه السلام ‏{‏فأسقِط علينا كِسْفاً من السماء إن كنتَ من الصادقِين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 187‏]‏، واستهزأت ثمود بصالح عليه السلام ‏{‏قال الملأ الّذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 66‏]‏، واستهزأوا بِشُعيْب عليه السلام ‏{‏قالوا يا شُعيب أصلواتك تأمُرك أن نتْرك ما يَعبد آبَاؤنَا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنّك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 87‏]‏، واستهزأ فرعون بموسى عليه السلام ‏{‏أم أنا خير من هذا الّذي هو مَهين ولا يكاد يبين‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 43‏]‏‏.‏

والاستهزاء‏:‏ مبالغة في الهَزْء مثل الاسْتسْخار في السخرية‏.‏

والإملاء‏:‏ الإمهال والتركُ مدة‏.‏ ومنه واهجرني ملياً‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم‏}‏ في ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 182‏]‏‏.‏

والاستفهام في فكيف كان عقاب للتعجيب‏.‏

و عقاب أصله عقابي مثل ما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ وإليه متاب‏}‏‏.‏

والكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ووعيد للمشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

الفاء الواقعة بعد همزة الاستفهام مؤخرة من تقديم لأن همزة الاستفهام لها الصدارة‏.‏ فتقدير أصل النظم‏:‏ فأمن هو قائم‏.‏ فالفاء لتفريع الاستفهام وليس الاستفهام استفهاماً على التفريع، وذلك هو الوجه في وقوع حروف العطف الثلاثة الواو والفاء وثم بعد الاستفهام وهو رأي المحقيقين، خلافاً لمن يجعلون الاستفهام وارداً على حرف العطف وما عَطفه‏.‏

فالفاء تفريع على جملة ‏{‏قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ المجاببِ به حكاية كفرهم المضمن في جملة ‏{‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، فالتفريع في المعنى على مجموع الأمرين‏:‏ كفرهم بالله، وإيمان النبي بالله‏.‏

ويجوز أن تكون تفريعاً على جملة ‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏، فيكون ترقياً في إنكار سؤالهم إتيان معجزة غير القرآن، أي إن تعجب من إنكارهم آيات القرآن فإن أعجب منه جعلهم القائم على كل نفس بما كسبت مماثلاً لمن جعلوهم لله شركاء‏.‏

واعتُرض أثرَ ذلك بردّ سُؤالهم أن تُسيّر الجبال أو تُقَطّع الأرض أو تُكلّم الموتى، وتذكيرهم بما حل بالمكذبين من قبلهم مع إدماج تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم فرع على ذلك الاستفهام الإنكاري‏.‏

وللمفسرين في تصوير نظم الآية محامل مختلفة وكثير منها متقاربة، ومرجع المتجه منها إلى أن في النظم حذفاً يدل عليه ما هو مذكور فيه، أو يدل عليه السياق‏.‏ والوجه في بيان النظم أن التفريع على مجموع قوله‏:‏ وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو‏}‏ أي أن كفرهم بالرحمان وإيمانك بأنه ربّك المقصورة عليه الربوبية يُتفرع على مجموع ذلك استفهامُهم استفهامَ إنكار عليهم تسويتهم من هو قائم على كلّ نفس بمن ليس مثله من جعلوهم له شركاء، أي كيف يشركونهم وهم ليسوا سواء مع الله‏.‏

وما صدق ‏{‏من هو قائم على كلّ نفس‏}‏ هو الله الإله الحق الخالق المدبّر‏.‏

وخبر ‏{‏من هو قائم‏}‏ محذوف دلت عليه جملة ‏{‏وجعلوا لله شركاء‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ أمن هو قائم على كل نفس ومن جعلوهم به شركاء سواء في استحقاق العبادة‏.‏ دل على تقديره ما تقتضيه الشركة في العبادة من التسوية في الإلهية واستحقاق العبادة‏.‏ والاستفهام إنكار لتلك التسوية المفاد من لفظ ‏{‏شركاء‏}‏‏.‏ وبهذا المحذوف استغني عن تقدير معادل للهمزة كما نبّه عليه صاحب «مغني اللّبيب»، لأن هذا المقدّر المدلول عليه بدليل خاص أقوى فائدة من تقدير المعادل الّذي حاصله أن يقدر‏:‏ أم من ليس كذلك‏.‏ وسيأتي قريباً بيان موقع ‏{‏وجعلوا لله شركاء‏}‏‏.‏

والعدول عن اسم الجلالة إلى الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏أفمن هو قائم‏}‏ لأن في الصلة دليلاً على انتفاء المساواة، وتخطئة لأهل الشرك في تشريك آلهتهم لله تعالى في الإلهية، ونداء على غباوتهم إذ هم معترفون بأن الله هو الخالق‏.‏

والمقدر باعتقادهم ذلك هو أصل إقامة الدليل عليهم بإقرارهم ولما في هذه الصلة من التعريض لما سيأتي قريباً‏.‏

والقائم على الشيء‏:‏ الرقيب، فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد، ولتضمنه معنى الرقيب عدي بحرف ‏{‏على‏}‏ المفيد للاستعلاء المجازي‏.‏ وأصله من القيام وهو الملازمة كقوله‏:‏ ‏{‏إلا ما دمت عليه قائماً‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏ ويجيء من معنى القائم أنه العليم بحال كل شيء لأن تمام القيومية يتوقف على إحاطة العلم‏.‏

فمعنى قائم على كل نفس‏}‏ مُتولّيها ومدبّرها في جميع شؤونها في الخلق والأجل والرزق، والعالم بأحوالها وأعمالها، فكان إطلاق وصف ‏{‏قائم‏}‏ هنا من إطلاق المشترك على معنييه‏.‏ والمشكرون لا ينازعون في انفراد الله بهذا القيام ولكنهم لا يراعون ذلك في عبادتهم غيره، فمن أجل ذلك لزمتهم الحجة ولمراعاة هذا المعنى تعلق قائم بقوله‏:‏ ‏{‏على كل نفس‏}‏ ليعم القيام سائر شؤونها‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما كسبت‏}‏ للملابسة‏.‏ وهي في موقع الحال من ‏{‏نفس‏}‏ أو من ‏{‏قائم‏}‏ باعتبار ما يقتضيه القيام من العلم، أي قياماً ملابساً لما عملته كل نفس، أي قياماً وفاقاً لأعمالها من عمل خير يقتضي القيامَ عليها باللطف والرضى فتظهر آثار ذلك في الدنيا والآخرة لقوله‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيّبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 97‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا‏}‏ ‏[‏سورة النور‏:‏ 55‏]‏؛ أو من عَمَل شر يقتضي قيامَه على النفس بالغضب والبلايا‏.‏ ففي هذه الصلة بعمومها تبشير وتهديد لمن تأمل من الفريقين‏.‏ فهذا تعريض بالأمرين للفريقين أفادته صلة الموصول‏.‏

وجملة وجعلوا لله شركاء‏}‏ في موضع الحال، والواو للحال، أي والحال جعلوا له شركاء‏.‏

وإظهار اسم الجلالة إظهار في مقام الإتيان بضمير ‏{‏من هو قائم‏}‏‏.‏ وفائدة هذا الإظهار التعبير عن المسمى باسمه العَلَم الذي هو الأصل إذ كان قد وقع الإيفاء بحق العدول عنه إلى الموصول في الجملة السابقة فتهيأ المقام للاسم العَلَم، وليكون تصريحاً بأنه المراد من الموصول السابق زيادة في التصريح بالحجة‏.‏

وجملة ‏{‏قل سموهم‏}‏ استئناف أعيد معها الأمر بالقول لاسترعاء الأفهام لوَعي ما سيذكر‏.‏ وهذه كلمة جامعة، أعني جملة ‏{‏سموهم‏}‏، وقد تضمنت رداً عليهم‏.‏ فالمعنى‏:‏ سموهم شركاء فليس لهم حظ إلا التسمية، أي دون مسمى الشريك، فالأمر مستعمل في معنى الإباحة كناية عن قلة المبالاة بادعائهم أنهم شركاء مثل ‏{‏قل كونوا حجارة‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 50‏]‏، وكما تقول للذي يخطئ في كلامه‏:‏ قُل ما شئتَ‏.‏ والمعنى‏:‏ إن هي إلا أسماء سميتموها لا مسمياتتٍ لها بوصف الإلهيّة لأنها حجارة لا صفات لها من صفات التصرف‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها‏}‏ ‏[‏سورة النجم‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذا إفحام لهم وتسفيه لأحلامهم بأنهم ألّهوا ما لا حقائق لها فلا شبهة لهم في ذلك، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقد تمحل المفسرون في تأويل قل سموهم‏}‏ بما لا مُحَصّل له من المعنى‏.‏

ثم أضرب عن ذلك بجملة ‏{‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏ وهي ‏{‏أم‏}‏ المنقطعة‏.‏ ودَلت ‏{‏أم‏}‏ على أن ما بعدها في معنى الاستفهام، وهو إنكاري توبيخي، أي ما كان لكم أن تفتروا على الله فتضعوا له شركاء لم ينبئكم لوجودهم، فقوله‏:‏ ‏{‏بما لا يعلم في الأرض‏}‏ كناية عن غير الموجود لأن ما لا يعلمه الله لا وجود له إذ لو كان موجوداً لم يَخْفَ على علم العلام بكل شيء‏.‏ وتقييد ذلك ب ‏{‏الأرض‏}‏ لزيادة تجهيلهم لأنه لو كان يخفى عن علمه شيء لخفي عنه ما لا يرى ولما خفيت عنه موجودات عظيمة بزعمكم‏.‏

وفي سورة يونس ‏(‏18‏)‏ ‏{‏قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض‏}‏ زيادة في التعميم‏.‏

وأم‏}‏ الثانية متصلة هي معادلة همزة الاستفهام المقدرة في ‏{‏أم تنبئونه‏}‏‏.‏ وإعادة الباء للتأكيد بعد ‏{‏أم‏}‏ العاطفة‏.‏ والتقدير‏:‏ بل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض بل أتنبئونه بظاهر من القول‏.‏

وليس الظاهر هنا مشتقاً من الظهور بمعنى الوضوح بل هو مشتق من الظُور بمعنى الزوال كناية عن البطلان، أي بمجرد قبول لا ثبات له وليس بحق، كقول أبي ذؤيب‏:‏

وتلككِ شكاة ظاهر عنككِ عارُها ***

وقول سبرة بن عمرو الفقعسي‏:‏

أعيّرْتَنا ألبانها ولحومها *** وذلك عارياً يا ابنَ رَيْطة ظاهر

وقوله‏:‏ ‏{‏بل زين للذين كفروا مكرهم‏}‏ إضراب عن الاحتجاج عليهم بإبطال إلهية أصنامهم إلى كشف السبب، وهو أن أيمة المشركين زيّنوا للذين كفروا مكرهم بهم إذ وضعوا لهم عبادتَها‏.‏

والمكر‏:‏ إخفاء وسائل الضر‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ في أوائل سورة آل عمران ‏(‏54‏)‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏أفأمنوا مكر الله‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏99‏)‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏30‏)‏‏.‏ والمراد هنا أن أيمة الكفر مثل عَمْرو بن لُحَيّ وضعوا للعرب عبادة الأصنام وحسّنوها إليهم مظهرين لهم أنها حق ونفع وما أرادوا بذلك إلا أن يكونوا قادة لهم ليسودُوهم ويُعبّدوهم‏.‏

فلما كان الفعل المبني للمجهول يقتضي فاعلاً منويّاً كان قوله‏:‏ زين للذين كفروا‏}‏ في قوة قولك‏:‏ زيّن لهم مزين‏.‏ والشيء المزيّن ‏(‏بالفتح‏)‏ هو الذي الكلام فيه وهو عبادة الأصنام فهي المفعول في المعنى لفعل التزيين المبني للمجهول، فتعين أن المرفوع بعد ذلك الفعل هو المفعول في المعنى، فلا جرم أن مكرهم هو المفعول في المعنى، فتعيّن أن المكر مراد به عبادة الأصنام‏.‏

وبهذا يتجه أن يكون إضافة ‏(‏مكر‏)‏ إلى ضمير الكفار من إضافة المصدر إلى ما هو في قوة المفعول وهو المجرور بباء التعدية، أي المكر بهم ممن زينوا لهم‏.‏

وقد تضمن هذا الاحتجاح أساليب وخصوصيات‏:‏

أحدها‏:‏ توبيخهم على قياسهم أصنامهم على الله في إثبات الإلهية لها قياساً فاسداً لانتفاء الجهة الجامعة فكيف يسوي من هو قائم على كل نفس بمن ليسوا في شيء من ذلك‏.‏

ثانيها‏:‏ تبهيلهم في جعلهم أسماءَ لا مسمياتتٍ لها آلهةً‏.‏

ثالثها‏:‏ إبطال كون أصنامهم آلهة بأن الله لا يعلمها آلهة، وهو كناية عن انتفاء إلهيتها‏.‏

رابعها‏:‏ أن ادعاءهم آلِهة مجرد كلام لا انطباق له مع الواقع، وهو قوله‏:‏ ‏{‏أم بظاهر من القول‏}‏‏.‏

خامسها‏:‏ أن ذلك تمويه باطل روجه فيهم دعاة الكفر، وهو معنى تسميته مكراً في قوله‏:‏ ‏{‏بل زين للذين كفروا مكرهم‏}‏‏.‏

سادسها‏:‏ أنهم يصدون الناس عن سبيل الهدى‏.‏

وعُطف ‏{‏وصدوا عن السبيل‏}‏ على جملة ‏{‏زين للذين كفروا مكرهم‏}‏‏.‏ وقرأه الجمهور بفتح الصاد فهو باعتبار كون مضمون كلتا الجملتين من أحوال المشركين‏:‏ فالأولى باعتبار كونهم مفعولين، والثانية باعتبار كونهم فاعلين للصدّ بعد أن انفعلوا بالكفر‏.‏ وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائيّ، وخلف ‏{‏وصدوا‏}‏ بضم الصاد فهو كجملة ‏{‏زين للذين كفروا‏}‏ في كون مضمون كلتيهما جعْل الذين كفروا مفعولاً للتزيين والصدّ‏.‏

وجملة ‏{‏ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏ تذييل لما فيه من العموم‏.‏

وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في إثبات ياء ‏{‏هاد‏}‏ في حالة الوصل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل قوم هاد‏}‏ في هذه السورة ‏(‏7‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏

استئناف بياني نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ لأن هذا التبديد يومئ إلى وعيد يسال عنه السامع‏.‏ وفيه تكملة للوعيد المتقدم في قوله‏:‏ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة‏}‏ مع زيادة الوعيد بما بعد ذلك في الدار الآخرة‏.‏

وتنكير ‏{‏عذاب‏}‏ للتعظيم، وهو عذاب القتل والخزي والأسر‏.‏ وإضافة ‏{‏عذاب‏}‏ إلى ‏{‏الآخرة‏}‏ على معنى ‏{‏في‏}‏‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ الداخلة على اسم الجلالة لتعدية ‏{‏واق‏}‏‏.‏ و‏{‏من‏}‏ الداخلة على ‏{‏واق‏}‏ لتأكيد النفي للتنصيص على العموم‏.‏

والواقي‏:‏ الحائل دون الضُرّ‏.‏ والوقاية من الله على حذف مضاف، أي من عذابه بقرينة ما ذكر قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي يرتبط بقوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ذُكر هنا بمناسبة ذكر ضدّه في قوله‏:‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة أشق‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والمثَل‏:‏ هنا الصفة العجيبة، قيل‏:‏ هو حقيقة من معاني المثل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله المثَل الأعلى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏، وقيل‏:‏ هو مستعار من المثَل الذي هو الشبيه في حالة عجيبة أطلق على الحالة العجيبة غير الشبيهة لأنها جديرة بالتشبيه بها‏.‏

وجملة تجري من تحتها الأنهار‏}‏ خبر عن ‏{‏مَثَل‏}‏ باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه، فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين، كما يقال‏:‏ صفة زيد أسمر‏.‏

وجملة ‏{‏أكلها دائم‏}‏ خبر ثان، والأكل بالضم‏:‏ المأكول، وتقدم‏.‏

ودوام الظل كناية عن التفاف الأشجار بحيث لا فراغ بينها تنفذ منه الشمس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجنات ألفافاً‏}‏ ‏[‏سورة النبأ‏:‏ 16‏]‏، وذلك من محامد الجنات وملاذّها‏.‏

وجملة تلك عقبى الذين اتقوا‏}‏ مستأنفة‏.‏

والإشارة إلى الجنة بصفاتها بحيث صارت كالمشاهدة، والمعنى‏:‏ تلك هي التي سمعتم أنها عقبى الدار للذين يوفون بعهد الله إلى قوله‏:‏ ‏{‏ويدرأون بالحسنة السيّئة إلى قوله فنعم عقبى الدار‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 24‏]‏ هي الجنة التي وعد المتّقون‏.‏ وقد علم أن الذين اتقوا هم المؤمنون الصالحون كما تقدم‏.‏ وأول مراتب التقوى الإيمان‏.‏ وجملة وعقبى الكافرين النار‏}‏ مستأنفة للمناسبة بالمضادة‏.‏ وهي كالبيان لِجملة ‏{‏ولهم سوء الدار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

الواو للاستئناف‏.‏ وهذا استئناف ابتدائي انتقل به إلى فضل لبعض أهل الكتاب في حسن تلقيهم للقرآن بعد الفراغ من ذكر أحوال المشركين من قوله‏:‏ ‏{‏كذلك أرسلناك في أمة‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 30‏]‏ الخ، ولذلك جاءت على أسلوبها في التعقيب بجملة ‏{‏قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 36‏]‏‏.‏

والمناسبة هي أن الذين أرسل إليهم بالقرآن انقسموا في التصديق بالقرآن فِرقاً؛ ففريق آمنوا بالله وهم المؤمنون، وفريق كفروا به وهم مصداق قوله‏:‏ ‏{‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 30‏]‏، كما تقدم أنه عائد إلى المشركين المفهومين من المقام كما هو مصطلح القرآن‏.‏

وهذا فريق آخر أيضاً أهل الكتاب وهو منقسم أيضاً في تلقي القرآن فرقتين‏:‏ فالفريق الأول صدّقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذُكروا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق‏}‏ في سورة العقود ‏(‏83‏)‏، وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مُقام النبي بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي فإن اليهود كانوا قد سُرُّوا بنزول القرآن مصدّقاً للتوراة، وكانوا يحسبون دعوة النبي مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وكان النصارى يستظهرون به على اليهود؛ وفريق لم يثبت لهم الفرحُ بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة‏.‏

وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم بيفرحون والذين آتيناهم الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ‏}‏ دون ‏{‏يؤمنون‏}‏‏.‏ وإنما سلكنا هذا الوجه بناءً على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يُسلم عبد الله بن سلام وسَلْمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن، فإن كانت السورة مدنية أو كان هذا من المدني فلا إشْكال‏.‏ فالمراد بالذين آتياناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملاً، وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 121‏]‏‏.‏

فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزابُ الذين أوتوا الكتاب، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاختلف الأحزاب من بينهم‏}‏ في سورة مريم ‏(‏37‏)‏، أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن، فاللام عوض عن المضاف إليه‏.‏ ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودُهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه، وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عُبودية عيسى عليه السلام بالنسبة للنصارى، ونبوءته بالنسبة لليهود‏.‏

وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه‏.‏ وهكذا كانت حالة اضطراب أهل الكتاب عندما دمغتهم بعثة النبي وأخذ أمر الإسلام يفشو‏.‏

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن للفريقين بأنه ما أمر إلا بتوحيد الله كما في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 64‏]‏، فمن فرح بالقرآن فليزدد فرحاً ومن أنكر بعضه فليأخذ بما لا ينكره وهو عدم الإشراك‏.‏ وقد كان النصارى يتبرؤون من الشرك ويعُدّون اعتقاد بُنوة عيسى عليه السلام غير شرك‏.‏

وهذه الآية من مجاراة الخصم واستنزال طائر نفسه كيلا ينفر من النظر‏.‏ وبهذا التفسير يظهر موقع جملة قل إنما أمرت أن أعبد الله‏}‏ بعد جملة ‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون‏}‏ وأنها جواب للفريقين‏.‏

وأفادت ‏{‏إنما‏}‏ أنه لم يؤمر إلا بأن يعبد الله ولا يشرك به، أي لا بغير ذلك مما عليه المشركون، فهو قصر إضافي دلت عليه القرينة‏.‏

ولما كان المأمور به مجموع شيئين‏:‏ عبادة الله، وعدم الإشراك به في ذلك آل المعنى‏:‏ أني ما أمرت إلا بتوحيد الله‏.‏

ومن بلاغة الجدل القرآني أنه لم يأت بذلك من أول الكلام بل أتى به متدرّجاً فيه فقال‏:‏ ‏{‏أن أعبد الله‏}‏ لأنه لا ينازع في ذلك أحد من أهل الكتاب ولا المشركين، ثم جاء بعده ‏{‏ولا أشرك‏}‏ به لإبطال إشراك المشركين وللتعريض بإبطال إلهية عيسى عليه السلام لأن ادعاء بنوته من الله تعالى يؤول إلى الإشراك‏.‏

وجملة ‏{‏إليه أدعوا وإليه مآب‏}‏ بيان لجملة ‏{‏إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به‏}‏، أي أن أعبده وأن أدعو الناس إلى ذلك، لأنه لما أمر بذلك من قبل الله استفيد أنه مرسل من الله فهو مأمور بالدعوة إليه‏.‏

وتقديم المجرور في الموضعين للاختصاص، أي إليه لا إلى غيره أدعُو، أي بهذا القرآن، وإليه لا إلى غيره مئابي، فإن المشركين يرجعون في مهمّهم إلى الأصنام يستنصرونها ويستغيثونها، وليس في قوله هذا ما ينكره أهل الكتاب إذ هو مما كانوا فيه سواء مع الإسلام‏.‏ على أن قوله‏:‏ ‏{‏وإليه مآب‏}‏ يعم الرجوع في الآخرة وهو البعث‏.‏ وهذا من وجوه الوفاق في أصل الدين بين الإسلام واليهودية والنصرانية‏.‏

وحذف ياء المتكلم من ‏{‏مآبي‏}‏ كحذفها في قوله‏:‏ ‏{‏عليه توكلت وإليه متاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقد مضى قريباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

اعتراض وعطف على جملة ‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 36‏]‏ لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عُرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولَى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملاً على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم‏.‏ وقد جُعل أهم هذا الغرض التنويهَ بعلوّ شأن القرآن لفظاً معنى‏.‏ وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب‏.‏

والقول في اسم الإشارة في قوله‏:‏ وكذلك‏}‏ مثل ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك أرسلناك في أمة‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وضمير الغائب في أنزلناه‏}‏ عائد إلى ‏{‏ما أنزل إليك‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏يفرحون بما أنزل إليك‏}‏‏.‏

والجار والمجرور من اسم الإشارة نائب عن المفعول المطلق‏.‏ والتقدير؛ أنزلناه إنزالاً كذلك الإنزال‏.‏

و ‏{‏حكماً عربياً‏}‏ حالان من ضمير ‏{‏أنزلناه‏}‏‏.‏ والحكم‏:‏ هنا بمعنى الحكمة كما في قوله‏:‏ ‏{‏وآتيناه الحكم صبيا‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وجُعل نفس الحكم حالاً منه مبالغة‏.‏ والمراد أنه ذو حكم، أي حكمة‏.‏ والحكمة تقدمت‏.‏

وعربياً‏}‏ حال ثانية وليس صفة ل ‏{‏حكماً‏}‏ إذ الحكمة لا توصف بالنسبة إلى الأمم وإنما المعنى أنه حكمة معبر عنها بالعربية‏.‏ والمقصود أنه بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجملها وأسهلها، وفي ذلك إعجازه‏.‏ فحصل لهذا الكتاب كمالان‏:‏ كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكماً، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربياً، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 192 195‏]‏‏.‏ %

ثم في كونه عربياً امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء بأنه بلغتهم وبأن في ذلك حسن سمعتهم، ففيه تعريض بأفن رأي الكافرين منهم إذ لم يشكروا هذه النعمة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 10‏]‏‏.‏ قال مالك‏:‏ فيه بقاء ذكركم‏.‏

وجملة ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم‏}‏ معترضة، واللام موطئة للقسم وضمير الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏أهواءهم‏}‏ عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون الذين وجه إليهم الكلام‏.‏

واتباع أهوائهم يحتمل السعي لإجابة طلبتهم إنزال آية غير القرآن تحذيراً من أن يسأل الله إجابتهم لما طلبوه كما قال لنوح عليه السلام ‏{‏فلا تسألني ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏ما جاءك من العلم‏}‏ ما بلغك وعُلّمته، فيحتمل أن يراد بالموصول القرآن تنويهاً به، أي لئن شايعَتهم فسألَتنا آية ير القرآن بعد أن نزل عليك القرآن، أو بعد أن أعلمناك أنا غير متنازلين لإجابة مقترحاتهم‏.‏

ويحتمل اتباع دينهم فإن دينهم أهواء ويكون ما صدق ‏{‏ما جاءك من العلم‏}‏ هو دين الإسلام‏.‏

والوليّ‏:‏ النصير‏.‏ والواقي‏:‏ المدافع‏.‏

وجعل نفي الولي والنصير جواباً للشرط كناية عن الجواب، وهو المؤاخذة والعقوبة‏.‏

والمقصود من هذا تحذير المسلمين من أن يركنوا إلى تمويهات المشركين، والتحذير من الرجوع إلى دينهم تهييجاً لتصلبهم في دينهم على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 65‏]‏، وتأييس المشركين من الطمع في مجيء آية توافق مقترحاتهم‏.‏

ومن‏}‏ الداخلة على اسم الجلالة تتعلق ب ‏{‏ولي‏}‏ و‏{‏واق‏}‏‏.‏ و‏{‏من‏}‏ الداخلة على ‏{‏ولي‏}‏ لتأكيد النفي تنصيصاً على العموم‏.‏ وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في حذفهم ياء ‏{‏واق‏}‏ في حالتي الوصل والوقف وإثبات ابن كثير الياء في حالة الوقف دون الوصل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل قوم هاد‏}‏ في هذه السورة ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِھَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏‏.‏

هذا عود إلى الردّ على المشركين في إنكارهم آية القرآن وتصميمهم على المطالبة بآية من مقترحاتهم تُماثل ما يؤثر من آيات موسى وآيات عيسى عليهما السلام ببيان أن الرسول لا يأتي بآيات إلاّ بإذن الله، وأن ذلك لا يكون عى مقترحات الأقوام، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏، فالجملة عطف على جملة ‏{‏وكذلك أنزلناه حكماً عربياً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وأدمج في هذا الرد إزالة شبهة قد تعرض أو قد عرضت لبعض المشركين فيطعنون أو طعنوا في نبوءة محمد بأنه يتزوج النساء وأن شأن النبي أن لا يهتم بالنساء‏.‏ قال البغوي‏:‏ روي أن اليهود وقيل إن المشركين قالوا‏:‏ إن هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء اه‏.‏ فتعين إن صحت الرواية في سبب النزول أن القائلين هم المشركون إذ هذه السورة مكية ولم يكن لليهود حديث مع أهل مكة ولا كان منهم في مكة أحد‏.‏ وليس يلزم أن يكون هذا نازلاً على سبب‏.‏ وقد تزوج رسول الله خديجة ثم سودة رضي الله عنهما في مكة فاحتمل أن المشركين قالوا قالةَ إنكار تعلقاً بأوهن أسباب الطعن في النبوءة‏.‏ وهذه شبهة تعرض للسذج أو لأصحاب التمويه، وقد يموّه بها المبشرون من النصارى على ضعفاء الإيمان فيفضلون عيسى عليه السلام على محمد بأن عيسى لم يتزوج النساء‏.‏ وهذا لا يروج على العقلاء لأن تلك بعض الحظوظ المباحة لا تقتضي تفضيلاً‏.‏ وإنما التفاضل في كل عمل بمقادير الكمالات الداخلة في ذلك العمل‏.‏ ولا يدري أحد الحكمة التي لأجلها لم يتزوج عيسى عليه السلام امرأةً‏.‏ وقد كان يحيى عليه السلام حَصوراً فلعل عيسى عليه السلام قد كان مثله لأن الله لا يكلفه بما يشق عليه وبما لم يكلف به غيره من الأنبياء والرسل‏.‏ وأما وصف الله يحيى عليه السلام بقوله‏:‏ وحصوراً‏}‏ فليس مقصوداً منه أنه فضيلة ولكنه أعلم أباه زكرياء عليه السلام بأنه لا يكون له نسل ليعلم أن الله أجاب دعوته فوهب له يحيى عليه السلام كرامة له، ثم قدّر أنه لا يكون له نسل إنفاذاً لتقديره فجعل امرأته عاقراً‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران‏.‏ وقد كان لأكثر الرسل أزواج ولأكثرهم ذرية مثل نوح وإبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان وغير هؤلاء عليهم السلام‏.‏

والأزواج‏:‏ جمع زوج، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، فقد يكون لبعض الرسل زوجة واحدة مثل‏:‏ نوح ولوط عليهما السلام، وقد يكون للبعض عدة زوجات مثل‏:‏ إبراهيم وموسى وداود وسليمان عليهم السلام‏.‏

ولما كان المقصود من الردّ هو عدم منافاة اتخاذ الزوجة لصفة الرسالة لم يكن داع إلى تعداد بعضهم زوجات كثيرة‏.‏

وتقدم الكلام على الزوج عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏35‏)‏‏.‏

والذرية‏:‏ النسل‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏124‏)‏‏.‏

وجملة وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏ هي المقصود وهي معطوفة على جملة ‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك‏}‏‏.‏ وتركيب ‏{‏ما كان‏}‏ يدل على المبالغة في النفي، كما تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏ في سورة العقود ‏(‏116‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن شأنك شأن من سبق من الرسل لا يأتون من الآيات إلاّ بما آتاهم الله‏.‏

وإذن الله‏:‏ هو إذن التكوين للآيات وإعلام الرسول بأن ستكون آية، فاستعير الإتيان للإظهار، واستعير الإذن للخلق والتكوين‏.‏

تذييل لأنه أفاد عموم الآجال فشمل أجل الإتيان بآية من قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏‏.‏ وذلك إبطال لتوهم المشركين أن تأخر الوعيد يدل على عدم صدقه‏.‏ وهذا ينظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 53‏]‏ فقد قالوا‏:‏ ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء‏}‏ الآية ‏[‏سورة الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وإذ قد كان ما سألوه من جملة الآيات وكان ما وعدوه آية على صدق الرسالة ناسب أن يذكر هنا أن تأخير ذلك لا يدل على عدم حصوله، فإن لذلك آجالاً أرادها الله واقتضتها حكمته وهو أعلم بخلقه وشؤونهم ولكن الجهلة يقيسون تصرفات الله بمثل ما تجري به تصرفات الخلائق‏.‏

والأجل‏:‏ الوقت الموقت به عمل معزوم أو موعود‏.‏

والكتاب‏:‏ المكتوب، وهو كناية عن التحديد والضبط، لأن شأن الأشياء التي يراد تحققها أن تكتب لئلا يخالف عليها‏.‏ وفي هذا الرد تعريض بالوعيد‏.‏ والمعنى‏:‏ لكل واقع أجلٌ يقع عنده، ولكل أجل كتاب، أي تعيين وتحديد لا يتقدمه ولا يتأخر عنه‏.‏

وجملة يمحوا الله ما يشاء‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن جملة ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ تقتضي أن الوعيد كائن وليس تأخيره مزيلاً له‏.‏ ولما كان في ذلك تأييس للناس عقب بالإعلام بأن التوبة مقبولة وبإحلال الرجاء محلّ اليأس، فجاءت جملة ‏{‏يمحوا الله ما يشاء ويثبت‏}‏ احتراساً‏.‏

وحقيقة المحو‏:‏ إزالة شيء، وكثر في إزالة الخط أو الصورة، ومرجع ذلك إلى عدم المشاهدة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ويطلق مجازاً على تغيير الأحوال وتبديل المعاني كالأخبار والتكاليف والوعد والوعيد فإن لها نسباً ومفاهيم إذا صادفت ما في الواقع كانت مطابقتُها إثباتاً لها وإذا لم تطابقه كان عدم مطابقتها محواً لأنه إزالة لمدلولاتها‏.‏

والتثبيت‏:‏ حقيقته جعل الشيء ثابتاً قاراً في مكان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا لقيتم فئة فاثبتوا‏}‏ ‏[‏سورة الأنفال‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ويطلق مجازاً على أضداد معاني المحو المذكورة‏.‏ فيندرج في ما تحتمله الآية عدةُ معانٍ‏:‏ منها أنه يُعدم ما يشاء من الموجودات ويبقي ما يشاء منها، ويعفو عما يشاء من الوعيد ويُقرر، وينسخ ما يشاء من التكاليف ويبقي ما يشاء‏.‏

وكل ذلك مظاهر لتصرف حكمته وعلمه وقدرته‏.‏ وإذ قد كانت تعلقات القدرة الإلهية جارية على وفق علم الله تعالى كان ما في علمه لا يتغير فإنه إذا أوجَدَ شيئاً كان عالماً أنه سيوجده، وإذا أزال شيئاً كان عالماً أنه سيزيله وعالماً بوقت ذلك‏.‏

وأبهم الممحو والمثبت بقوله‏:‏ ما يشاء‏}‏ لتتوجه الأفهام إلى تعرّف ذلك والتدبر فيه لأن تحت ذا الموصول صوراً لا تحصى، وأسبابُ المشيئة لا تحصى‏.‏

ومن مشيئة الله تعالى محوَ الوعيد أن يلهم المذنبين التوبة والإقلاع ويخلق في قلوبهم داعية الامتثال‏.‏ ومن مشيئة التثبيت أن يصرف قلوب قوم عن النظر في تدارك أمورهم، وكذلك القول في العكس من تثبيت الخير ومحوه‏.‏

ومن آثار المحو تغير إجراء الأحكام على الأشخاص، فبينما ترى المحارب مبحوثاً عنه مطلوباً للأخذ فإذا جاء تائباً قبل القدرة عليه قُبل رجوعه ورفع عنه ذلك الطلب، وكذلك إجراء الأحكام على أهل الحرب إذا آمنوا ودخلوا تحت أحكام الإسلام‏.‏

وكذلك الشأن في ظهور آثار رضي الله أو غضبه على العبد فبينما ترى أحداً مغضوباً عليه مضروباً عليه المذلة لانغماسه في المعاصي إذا بك تراه قد أقلع وتاب فأعزه الله ونصره‏.‏

ومن آثار ذلك أيضاً تقليب القلوب بأن يجعل الله البغضاء محبةً، كما قالت هند بنتُ عتبة للنبيء صلى الله عليه وسلم بعدَ أن أسلمتْ‏:‏ «ما كان أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خِبائك واليوم أصبحتُ وما أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك»‏.‏

وقد محا الله وعيد من بقي من أهل مكة فرفع عنهم السيف يوم فتح مكة قبل أن يأتوا مسلمين، ولو شاء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئصالهم حين دخوله مكة فاتحاً‏.‏

وبهذا يتحصل أن لفظ ‏{‏ما يشاء‏}‏ عام يشمل كل ما يشاؤه الله تعالى ولكنه مجمل في مشيئة الله بالمحو والإثبات، وذلك لا تصل الأدلة العقلية إلى بيانه، ولم يرد في الأخبار المأثورة ما يبينه إلا القليل على تفاوت في صحة أسانيده‏.‏ ومن الصحيح فيما ورد من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكونُ بينَه وبينها إلاّ ذراعٌ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‏.‏ وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»‏.‏

والذي يلوح في معنى الآية أن ما في أم الكتاب لا يقبل محواً، فهو ثابت وهو قسيم لما يشاء الله محوه‏.‏

ويجوز أن يكون ما في أم الكتاب هو عين ما يشاءُ الله محوه أو إثباته سواء كان تعييناً بالأشخاص أو بالذوات أو بالأنواع وسواء كانت الأنواع من الذوات أو من الأفعال، وأن جملة ‏{‏وعنده أم الكتاب‏}‏ أفادت أن ذلك لا يطلع عليه أحد‏.‏

ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وعنده أم الكتاب‏}‏ مراداً به الكتاب الذي كتبت به الآجال وهو قوله‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏، وأن المحو في غير الآجال‏.‏

ويجوز أن يكون أم الكتاب مراداً به علم الله تعالى، أي يمحو ويثبت وهو عالم بأن الشيء سيُمحى أو يثبت‏.‏ وفي تفسير القرطبي عن ابن عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلاّ السعادة والشقاوة والموت»‏.‏ وروى مثله عن مجاهد‏.‏ وروى عن ابن عباس ‏{‏يمحوا الله ما يشاء ويثبت‏}‏ إلا أشياء الخَلْقَ بفتح الخاء وسكون اللام والخُلُق بضم الخاء واللام والأجل والرزقَ والسعادة والشقاوة، ‏{‏وعنده أم الكتاب‏}‏ الذي لا يتغيّر منه شيء‏.‏ قلت‏:‏ وقد تفرع على هذا قول الأشعري‏:‏ إن السعادة والشقاوة لا يتبدلان خلافاً للماتريدي‏.‏

وعن عمر وابن مسعود ما يقتضي أن السعادة والشقاوة يقبلان المحو والإثبات‏.‏

فإذا حمل المحو على ما يجمع معاني الإزالة، وحُمل الإثبات على ما يجمع معانيَ الإبقاء، وإذا حمل معنى ‏{‏أم الكتاب‏}‏ على معنى ما لا يقبل إزالة ما قرر أنه حاصل أو أنه موعود به ولا يقبل إثبات ما قرر انتفاؤه، سواء في ذلك الأخبار والأحكام، كان ما في أم الكتاب قسيماً لما يمحى ويثبت‏.‏

وإذا حمل على أن ما يقبل المحو والإثبات معلوم لا يتغيّر علم الله به كان ما في أم الكتاب تنبيهاً على أن التغييرات التي تطرأ على الأحكام أو على الأخبار ما هي إلا تغييرات مقررة من قبلُ وإنما كان الإخبار عن إيجادها أو عن إعدامها مظهراً لما اقتضته الحكمة الإلهية في وقت ما‏.‏

و ‏{‏أم الكتاب‏}‏ لا محالة شيء مضاف إلى الكتاب الذي ذُكر في قوله‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏‏.‏ فإن طريقَة إعادة النكرة بحرف التعريف أن تكون المُعادة عينَ الأولى بأن يجعل التعريف تعريف العهد، أي وعنده أم ذلك الكتاب، وهو كتاب الأجل‏.‏

فكلمة ‏{‏أمّ‏}‏ مستعملة مجازاً فيما يُشبه الأم في كونها أصلاً لما تضاف إليه ‏{‏أمُّ‏}‏ لأن الأمّ يتولد منها المولود فكثر إطلاق أمّ الشيء على أصله، فالأمّ هنا مراد به ما هو أصل للمحو والإثبات اللذيْن هما من مظاهر قوله‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏، أي لِما مَحْوُ وإثباتُ المشيئات مظاهرُ له وصادرة عنه، فأمُّ الكتاب هو علم الله تعالى بما سيريد محوه وما سيريد إثباته كما تقدم‏.‏

والعِندية عندية الاستئثار بالعلم وما يتصرف عنه، أي وفي ملكه وعلمه أمّ الكتاب لا يَطلع عليها أحد‏.‏ ولكن الناس يرون مظاهرها دون اطلاع على مدى ثبات تلك المظاهر وزوالها، أي أن الله المتصرف بتعيين الآجال والمواقيت فجعل لكل أجل حداً معيناً، فيكون أصل الكتاب على هذا التفسير بمعنى كله وقاعدته‏.‏

ويحتمل أن يكون التعريف في ‏{‏الكتاب‏}‏ الذي أضيف إليه ‏{‏أم‏}‏ أصل ما يُكتب، أي يُقدر في علم الله من الحوادث فهو الذي لا يُغيّر، أي يمحو ما يشاء ويثبت في الأخبار من وعد ووعيد، وفي الآثار من ثواب وعقاب، وعنده ثابتُ التقادير كلها غير متغيرة‏.‏

والعندية على هذا عندية الاختصاص، أي العلم، فالمعنى‏:‏ أنه يمحو ما يشاء ويثبت فيما يبلغ إلى الناس وهو يعلم ما ستكون عليه الأشياء وما تستقر عليه، فالله يأمر الناس بالإيمان وهو يعلم مَن سيؤمن منهم ومن لا يؤمن فلا يفجؤه حادث‏.‏ ويشمل ذلك نسخَ الأحكام التكليفية فهو يشرعها لمصالح ثم ينسخها لزوال أسباب شرعها وهو في حال شَرْعها يعلم أنها آيلة إلى أن تنسخ‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ويثبّت‏}‏ بتشديد الموحدة من ثبّت المضاعف‏.‏ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب ‏{‏ويُثْبت‏}‏ بسكون المثلثة وتخفيف الموحدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏يمحوا الله ما يشاء ويثبت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏ باعتبار ما تفيده من إبهام مراد الله في آجال الوعيد ومواقيت إنزال الآيات، فبينت هذه الجملة أن النبي ليس مأموراً بالاشتغال بذلك ولا بترقبه وإنما هو مبلّغ عن الله لعباده والله يعلم ما يحاسب به عباده سواء شهد النبي ذلك أم لم يشهده‏.‏

وجعل التوفي كناية عن عدم رؤية حلول الوعيد بقرينة مقابلته بقوله‏:‏ نرينك‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ما عليك إلا البلاغ سواء رأيت عذابهم أم لم تره‏.‏

وفي الإتيان بكلمة ‏{‏بعض‏}‏ إيماء إلى أنه يرى البعض‏.‏ وفي هذا إنذار لهم بأن الوعيد نازل بهم ولو تأخر؛ وأن هذا الدين يستمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه إذا كان الوعيد الذي أمر بإبلاغه واقعاً ولو بعد وفاته فبالأولى أن يكون شرعه الذي لأجله جاء وعيد الكافرين به شرعاً مستمراً بعده، ضرورة أن الوسيلة لا تكون من الأهمية بأشدّ من المقصد المقصودة لأجله‏.‏

وتأكيد الشرط بنون التوكيد و‏{‏مَا‏}‏ المزيدة بعد ‏{‏إنْ‏}‏ الشرطية مراد منه تأكيد الربط بين هذا الشرط وجوابه وهو ‏{‏إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏‏.‏ على أن نون التوكيد لا يقترن بها فعل الشرط إلاّ إذا زيدت ‏{‏ما‏}‏؛ بعد ‏{‏إن‏}‏ الشرطية فتكون إرادة التأكيد مقتضية لاجتلاب مؤكدين، فلا يكون ذلك إلا لغرض تأكيد قويّ‏.‏

وقد أرى الله نبيئه بعض ما توعد به المشركين من الهلاك بالسيف يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وغيرها من أيام الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُرِهِ بعضه مثل عذاب أهل الردة فإن معظمهم كان من المكذبين المبطنين الكفر مثل‏:‏ مسيلمة الكذاب‏.‏

وفي الآية إيماء إلى أن العذاب الذي يحل بالمكذبين لرسوله صلى الله عليه وسلم عذاب قاصر على المكذبين لا يصيب غير المكذب لأنه استئصال بالسيف قابل للتجزئة واختلاف الأزمان رحمةً من الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم

و ‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏ مستعملة في الإيجاب والإلزام، وهو في الأول حقيقة وفي الثاني مجاز في الوجوب لله بالتزامه به‏.‏

و ‏{‏إنما‏}‏ للحصر، والمحصور فيه هو البلاغ لأنه المتأخر في الذكر من الجملة المدخولة لِحرف الحصر، والتقدير‏:‏ عليك البلاغ لا غيره من إنزال الآيات أو من تعجيل العذاب، ولهذا قدم الخبر على المبتدأ لتعيين المحصور فيه‏.‏

وجملة ‏{‏وعلينا الحساب‏}‏ عطف على جملة ‏{‏عليك البلاغ‏}‏ فهي مدخولة في المعنى لحرف الحصر‏.‏ والتقدير‏:‏ وإنما علينا الحساب، أي محاسبتهم على التكذيب لا غير الحساب من إجابة مقترحاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 40‏]‏ المتعلقة بجملة لكل أجل كتاب‏}‏‏.‏ عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بأن ملامح نصر النبي صلى الله عليه وسلم قد لاحت وتباشير ظَفَره قد طلعت ليتدبروا في أمرهم، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغيرُ واقع بهم‏.‏ وهي أيضاً بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه، فهي أيضاً احتراس من أن ييأس النبي صلى الله عليه وسلم من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدّين‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أولم يروا أنا‏}‏ إنكاري، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم ضمير ‏{‏نعدهم‏}‏‏.‏ والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض، أي سكانها‏.‏

والرؤية يجوز أن تكون بصرية‏.‏ والمراد‏:‏ رؤية آثار ذلك النقص؛ ويجوز أن تكون علمية، أي ألم يعملوا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص‏.‏

وتعريف ‏{‏الأرض‏}‏ تعريف الجنس، أي نأتي أية أرض من أرضي الأمم‏.‏ وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازاً، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 82‏]‏ بقرينة تعلق النقص بها، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها‏.‏ وهذا من باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها‏}‏ ‏[‏سورة محمد‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بالأرض‏}‏ أرض الكافرين من قريش فيكون التعريف للعهد، وتكون الرؤية بصرية، ويكون ذلك إيقاظاً لهم لما غلب عليه المسلمون من أرض العدوّ فخرجت من سلطانه فتنقص الأرض التي كانت في تصرفهم وتزيد الأرض الخاضعة لأهل الإسلام‏.‏ وبنوا على ذلك أن هذه الآية نزلت بالمدينة وهو الذي حمل فريقاً على القول بأن سورة الرعد مدنية فإذا اعتبرت مدنية صح أن تفسر الأطراف بطرفين وهما مكة والمدينة فإنهما طرفا بلاد العرب، فمكة طرفها من جهة اليَمن، والمدينة طرف البلاد من جهة الشام، ولم يزل عدد الكفار في البلدين في انتقاص بإسلام كفارها إلى أن تمحضت المدينة للإسلام ثم تمحضت مكة له بعد يوم الفتح‏.‏

وأيّاً ما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون، كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 51‏]‏، أي ما هم الغالبون‏.‏ وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم‏.‏

وجملة ‏{‏والله يحكم لا معقب لحكمه‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 41‏]‏ عطف على جملة أولم يروا أنا‏}‏ مؤكدة للمقصود منها، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه، فاستدل على ذلك بجملة ‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم‏}‏ ثم بجملة ‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض‏}‏ ثم بجملة ‏{‏والله يحكم‏}‏، لأن المعنى‏:‏ أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر‏.‏

ولذلك فجملة ‏{‏لا معقب لحكمه‏}‏ في موضع الحال، وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى، وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه‏.‏‏:‏ وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقباً من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد‏.‏

والمعقب‏:‏ الذي يعقب عملاً فيبطله، مشتق من العَقِب، وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏له معقبات‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 11‏]‏ في هذه السورة، كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل‏.‏

وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله‏:‏ أنا نأتي الأرض‏}‏ لتربية المهابة، وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية والوحدانية المقتضية عدم المنازع، وأيضاً لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل‏.‏

وجملة ‏{‏وهو سريع الحساب‏}‏ يجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏والله يحكم‏}‏ فتكون دليلاً رابعاً على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه؛ ويجوز أن يكون عطفاً على جملة الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ يحكم غير منقوص حكمه وسريعاً حسابه‏.‏ ومآل التقديرين واحد‏.‏

والحساب‏:‏ كناية عن الجزاء والسرعة‏:‏ العجلة، وهي في كل شيء بحسبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏‏}‏

لما كان قوله‏:‏ ‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 41‏]‏ تهديداً وإنذاراً مثل قوله‏:‏ ‏{‏فقد جاء أشراطها‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 18‏]‏ وهو إنذار بوعيد على تظاهرهم بطلب الآيات وهم يضمرون التصميم على التكذيب والاستمرار عليه‏.‏ شبه عملهم بالمكر وشبه بعمل المكذبين السابقين كقوله‏:‏ ‏{‏ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وفي هذا التشبيه رمز إلى أن عاقبتهم كعاقبة الأمم التي عَرفوها‏.‏ فنقص أرض هؤلاء من أطرافها من مكر الله بهم جزاء مكرهم، فلذلك أعقب بقوله‏:‏ وقد مكر الذين من قبلهم‏}‏ أي كما مكر هؤلاء‏.‏ فجملة ‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم‏}‏ حال أو معترضة‏.‏

وجملة ‏{‏فللَّه المكر جميعاً‏}‏ تفريع على جملة ‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏ وجملة ‏{‏والله يحكم لا معقب لحكمه‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ مكَرَ هؤلاء ومكرَ الذين من قبلهم وحل العذاب بالذين من قبلهم فمكر الله بهم وهو يمكر بهؤلاء مكراً عظيماً كما مكر بمن قبلهم‏.‏

وتقديم المجرور في قوله‏:‏ فللَّه المكر جميعاً‏}‏ للاختصاص، أي له لا لغيره، لأن مكره لا يدفعه دافع فمكر غيره كلاَ مكر بقرينة أنه أثبت لهم مكراً بقوله‏:‏ ‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم‏}‏‏.‏ وهذا بمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خير الماكرين‏}‏‏.‏

وأكد مدلول الاختصاص بقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ وهو حال من المكر‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم جميعاً في ‏[‏سورة يونس‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وإنما جعل جميع المكر لله بتنزيل مكر غيره منزلة العدم، فالقصر في قوله‏:‏ فللَّه المكر‏}‏ ادعائي، والعموم في قوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ تنزيليّ‏.‏

وجملة ‏{‏يعلم ما تكسب كل نفس‏}‏ بمنزلة العلة لجملة ‏{‏فللَّه المكر جميعاً‏}‏، لأنه لما كان يعلم ما تكسب كل نفس من ظاهر الكسب وباطنه كان مكره أشد من مكر كل نفس لأنه لا يفوته شيء مما تضمره النفوس من المكر فيبقى بعض مكرهم دون مقابلة بأشد منه فإن القوي الشديد الذي لا يعلم الغيوب قد يكون عقابه أشد ولكنه قد يفوقه الضعيف بحيلته‏.‏

وجملة ‏{‏وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فللَّه المكر جميعاً‏}‏‏.‏ والمراد بالكافر الجنس، أي الكفار، و‏{‏عقبى الدار‏}‏ تقدم آنفاً، أي سيعلم عقبى الدار للمؤمنين لا للكافرين، فالكلام تعريض بالوعيد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وسيعلم الكافر‏}‏ بإفراد الكافر‏.‏ وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة والكسائي، وخلف ‏{‏وسيعلم الكفار‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏ والمفرد والجمع سواء في المعرف بلام الجنس‏.‏